كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قُلْت: لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ الشَّخْصُ لَمْ يَفْقَهْ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا قال وَلَا فَهِمَ مِنْ الْكَلَامِ شَيْئًا فَضْلًا عَنْ الْعَرَبِ. فَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ الْعِلْمُ بِمَعْنَى كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ؛ هَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ. فَكُلُّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ القرآن وَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَا وَأَنْ يَكِلَ عِلْمَهَا إلَى اللَّهِ فَيَقول اللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. فَمَا زَالَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَمُرُّ بِآيَةِ وَلَفْظٍ لَا يَفْهَمُهُ فَيُؤْمِنُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاه. لَكِنْ هَلْ يَكُونُ فِي القرآن مَا لَا يَفْهَمُهُ أحد مِنْ النَّاسِ. بَلْ وَلَا الرَّسُولُ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ التَّأْوِيلَ هُوَ (مَعْنَى الْآيَةِ) وَيَقول: إنَّهُ لَا يعلمهُ إلَّا اللَّهُ؟ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي القرآن كَلَامٌ لَا يَفْهَمُهُ لَا الرَّسُولُ وَلَا أحد مِنْ الْأُمَّةِ بَلْ وَلَا جِبْرِيلُ. هَذَا هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ عَلَى قول مَنْ يَجْعَلُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يَفْهَمُهُ أحد مِنْ النَّاسِ. وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ. وَالْجَنَّةِ. فَإِنَّا قَدْ فَهِمْنَا الْكَلَامَ الَّذِي خُوطِبْنَا بِهِ وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ نَعِيمًا لَا نَعْلَمُهُ. وَهَذَا خِطَابٌ مَفْهُومٌ وَفِيهِ إخْبَارُنَا أَنَّ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَا لَا نَعْلَمُهُ. وَهَذَا حَقٌّ كَقوله: {وَمَا يعلم جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ} وَقوله لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا}. فَهَذَا فِيهِ إخْبَارُنَا بِأَنَّ لِلَّهِ مَخْلُوقَاتٍ لَا نَعْلَمُهَا أَوْ نَعْلَمُ جِنْسَهُمْ وَلَا نَعْلَمُ قَدْرَهُمْ أَوْ نَعْلَمُ بَعْضَ صِفَاتِهِمْ دُونَ بَعْضٍ. وَكُلُّ هَذَا حَقٌّ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْخِطَابَ الْمُنَزَّلَ الَّذِي أُمِرْنَا بِتَدَبُّرِهِ لَا يَفْقَهُ وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَا الرَّسُولُ وَلَا الْمُؤْمِنُونَ. فَهَذَا هُوَ الْمُنْكَرُ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْعُلَمَاءُ. فَإِنَّ اللَّهَ قال: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قرأنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وَقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وَقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقول} وَقال: {حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قال آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}. وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ أَوْ أَخْبَرَنَا بِبَعْضِ صِفَاتِهِ دُونَ بَعْضٍ فَمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ لَا يَضُرُّنَا أَنْ لَا نَعْلَمَهُ وَبَيَّنَ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي جَعَلَ هُدًى وَشِفَاءً لِلنَّاسِ.
وقال الْحَسَنُ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يعلم فِيمَا أُنْزِلَتْ وَمَا عَنَى بِهَا. فَكَيْفَ يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ مَا لَا يَفْهَمُهُ أحد قَطُّ؟. وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يُقال الرَّبُّ هُوَ الَّذِي يَأْتِي إتْيَانًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ. أَوْ يُقال مَا نَدْرِي هَلْ هُوَ الَّذِي يَأْتِي أَوْ أَمْرُهُ. فَكَثِيرٌ مَنْ لَا يَجْزِمُ بِأحدهِمَا بَلْ يَقول: اُسْكُتْ فَالسُّكُوتُ أَسْلَمُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يعلم فَالسُّكُوتُ لَهُ أَسْلَمُ كَمَا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ». لَكِنَّ هُوَ يَقول: إنَّ الرَّسُولَ وَجَمِيعَ الْأُمَّةِ كَانُوا كَذَلِكَ لَا يَدْرُونَ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ هَذَا أَوْ هَذَا وَلَا الرَّسُولُ كَانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ. فَقَائِلُ هَذَا مُبْطِلٌ مُتَكَلِّمٌ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. وَكَانَ يَسَعُهُ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ هَذَا لَا يَجْزِمُ بِأَنَّ الرَّسُولَ وَالْأَئِمَّةَ كُلَّهُمْ جُهَّالٌ يَجِبُ عَلَيْهِمْ السُّكُوتُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ. ثُمَّ إنَّ هَذَا خِلَافُ الْوَاقِعِ. فَأَحَادِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرُهَا كَثِيرٌ مَشْهُورٌ. لَكِنْ قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ. أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟.
وقال ابْنُ مَسْعُودٍ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقولهمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ». وَإِذَا قال: بَلْ كَانَ مِنْ السَّلَفِ مَنْ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ إتْيَانُهُ نَفْسُهُ فَهَذَا جَزْمٌ بِأَنَّهُمْ عَرَفُوا مَعْنَاهَا وَبُطْلَانَ الْقول الْآخَرِ لَمْ يَكُونُوا سَاكِتِينَ حَيَارَى. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَقْدُورَهُ وَمَأْمُورَهُ مِمَّا يَأْتِي أَيْضًا وَلَكِنْ هُوَ يَأْتِي كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ إتْيَانًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ. فَإِذَا قِيلَ: لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ كَانَ هَذَا صَحِيحًا. وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ وَالْكَلَامُ مِمَّا لَا يَفْهَمُ أحد مَعْنَاهُ لَا الرَّسُولُ وَلَا جِبْرِيلُ وَلَا الْمُؤْمِنُونَ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُتَدَبَّرُ وَيُعْقَلُ. بَلْ مِثْلُ هَذَا عَبَثٌ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ الْعَبَثِ. ثُمَّ هَذَا يَلْزَمُهُمْ فِي الْأَحَادِيثِ مِثْلُ قوله: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ». أَفَكَانَ الرَّسُولُ يَقول هَذَا الْحَدِيثَ وَنَحْوَهُ وَهُوَ لَا يَفْقَهُ مَا يَقول وَلَا يَفْهَمُ لَهُ مَعْنًى؟ سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ وَقَدْحٌ فِي الرَّسُولِ وَتَسْلِيطٌ لِلْمُلْحِدِينَ. إذَا قِيلَ إنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ قَدْ كَانَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ قالوا: فَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَفْهَمَ مَعْنَاه. وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ فَإِذَا قِيلَ إنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ لَمْ يَكُنْ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ يَفْهَمُهُ وَهُوَ كَلَامُ أُمِّيٍّ عَرَبِيٍّ يَنْزِلُ عَلَيْهِ قِيلَ: فَالْمَعَانِي الْمَعْقولةُ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ يَفْهَمُهَا. وَحِينَئِذٍ فَهَذَا الْبَابُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي رِسَالَتِهِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ.
قالتْ الْمَلَأحدةُ: فَيُؤْخَذُ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ. فَإِذَا قال لَهُمْ هَؤُلَاءِ: هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأحد مَنَعُوا ذَلِكَ وَقالوا: إنَّمَا فِي القرآن أَنَّ ذَلِكَ الْخِطَابَ لَا يعلم مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ. لَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ الْأُمُورَ الْإِلَهِيَّةَ لَا تُعْلَمُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَقْصُرُ عَنْهَا الْبَيَانُ بِمُجَرَّدِ الْخِطَابِ وَالْخَبَرِ؟ وَالْمَلَأحدةُ يَقولونَ: إنَّ الرُّسُلَ خَاطَبَتْ بِالتَّخْيِيلِ وَأَهْلُ الْكَلَامِ يَقولونَ: بِالتَّأْوِيلِ وَهَؤُلَاءِ الظَّاهِرِيَّةُ يَقولونَ: بِالتَّجْهِيلِ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى خَطَأِ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ وَبُيِّنَ أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ أَتَى بِغَايَةِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أحدا مِنْ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتِيَ بِأَكْمَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ صلى الله عليه وسلم تَسْلِيمًا. فَأَكْمَلُ مَا جَاءَ بِهِ القرآن وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي فَهْمِ القرآن تَفَاوُتًا عَظِيمًا. وَقول ابْنِ السَّائِبِ: إنَّ هَذَا مِنْ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ تَفْسِيرًا يعلمهُ الْعُلَمَاءُ وَيَكْتُمُونَهُ.
وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ. إمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ يُكْتَمُ شَيْءٌ مِمَّا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ فَهَذَا مِنْ الْكِتْمَانِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَعَابَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالهدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ.
وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ}. وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كِتْمَانِ مَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ الْأَلْفَاظِ يَتَأَوَّلُهَا بَعْضُهُمْ وَيَجْعَلُهَا بَعْضُهُمْ مُتَشَابِهًا. وَهِيَ دَلَائِلُ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنَّ أَلْفَاظَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَهِيَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ كِتَابًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُمْكِنُهُمْ جَحْدُ أَلْفَاظِهَا لَكِنْ يُحَرِّفُونَهَا بِالتَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ وَيَكْتُمُونَ مَعَانِيَهَا الصَّحِيحَةَ عَنْ عَامَّتِهِمْ كَمَا قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يعلمونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ}. فمن جَعَلَ أَهْلَ القرآن كَذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا فِيهِ أُمِّيِّينَ لَا يعلمونَ الْكِتَابَ إلَّا تِلَاوَةً فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِنَظِيرِ مَا ذَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْكِتَابِ. وَصَبِيغُ بْنُ عسيل التَّمِيمِيُّ إنَّمَا ضَرَبَهُ عُمَرُ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَابَهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا شَيْئَيْنِ سُوءَ الْقَصْدِ وَالْجَهْلِ. فَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ لِيُوقِعُوا بِذَلِكَ الشُّبْهَةَ وَالشَّكَّ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ». فَهَذَا فِعْلُ مَنْ يُعَارِضُ النُّصُوصَ بَعْضَهَا بِبَعْضِ لِيُوقِعَ الْفِتْنَةَ وَهِيَ الشَّكُّ وَالرَّيْبُ فِي الْقُلُوبِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ «خَرَجَ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ يَتَجَادَلُونَ فِي الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ يَقولونَ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا؟ وَهَؤُلَاءِ يَقولونَ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا؟ فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ ثُمَّ قال: أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ؟ اُنْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَافْعَلُوهُ». فَكُلُّ مَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ مَذْمُومٌ. وَهُوَ حَالُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُشَكِّكَ النَّاسَ فِيمَا عَلِمُوهُ لِكَوْنِهِ وَإِيَّاهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مَا تَوَهَّمُوا أَنَّهُ يُعَارِضُهُ. هَذَا أَصْلُ الْفِتْنَةِ أَنْ يُتْرَكَ الْمَعْلُومُ لِغَيْرِ مَعْلُومٍ كَالسَّفْسَطَةِ الَّتِي تُورِثُ شُبَهًا يَقْدَحُ بِهَا فِيمَا عُلِمَ وَتُيُقِّنَ. فَهَذِهِ حَالُ مَنْ يُفْسِدُ قُلُوبَ النَّاسِ وَعُقولهمْ بِإِفْسَادِ مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ أَصْلَ الهدى فَإِذَا شَكَّكَهُمْ فِيمَا عَلِمُوهُ بَقُوا حَيَارَى.
وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَتَى بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ وَالقرآن فِيهِ الْآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ اللَّاتِي هِيَ أُمُّ الْكِتَابِ قَدْ عَلِمَ مَعْنَاهَا وَعَلِمَ أَنَّهَا حَقٌّ وَبِذَلِكَ يَهْتَدِي الْخلق وَيَنْتَفِعُونَ. فَمَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ ابْتَغَى الْفِتْنَةَ وَابْتَغَى تَأْوِيلَهُ وَالْأَوَّلُ قَصْدُهُمْ فِيهِ فَاسِدٌ وَالثَّانِي لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ بَلْ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَأْوِيلِهِ بِمَا يُفْسِدُ مَعْنَاهُ إذْ كَانُوا لَيْسُوا مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ. وَإِنَّمَا الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي رَسَخَ فِي الْعِلْمِ بِمَعْنَى الْمُحْكَمِ وَصَارَ ثَابِتًا فِيهِ لَا يَشُكُّ وَلَا يَرْتَابُ فِيهِ بِمَا يُعَارِضُهُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ بَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ بِهِ قَدْ يعلمونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرْسَخْ فِي ذَلِكَ بَلْ إذَا عَارَضَهُ الْمُتَشَابِهُ شَكَّ فِيهِ فَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُتَشَابِهِ مَا يُنَاقِضُ الْمُحْكَمَ فَلَا يعلم مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ إذْ لَمْ يَرْسَخْ فِي الْعِلْمِ بِالْمُحْكَمِ. وَهُوَ يَبْتَغِي الْفِتْنَةَ فِي هَذَا وَهَذَا. فَهَذَا يُعَاقَبُ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِصَبِيغِ. وَأَمَّا مَنْ قَصْدُهُ الهدى وَالْحَقُّ فَلَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَسْأَلُ وَيُسْأَلُ عَنْ مَعَانِي الْآيَاتِ الدَّقِيقَةِ وَقَدْ سَأَلَ أَصْحَابَهُ عَنْ قوله: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَذَكَرُوا ظَاهِرَ لَفْظِهَا. وَلَمَّا فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهَا إعْلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقُرْبِ وَفَاتِهِ قال: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَعْلَمُ.
وَهَذَا بَاطِنُ الْآيَةِ الْمُوَافِقُ لِظَاهِرِهَا. فَإِنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالِاسْتِغْفَارِ عِنْدَ ظُهُورِ الدِّينِ وَالِاسْتِغْفَارُ يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ خِتَامِ الْأَعْمَالِ وَبِظُهُورِ الدِّينِ حَصَلَ مَقْصُودُ الرِّسَالَةِ عَلِمُوا أَنَّهُ إعْلَامٌ بِقُرْبِ الْأَجَلِ مَعَ أُمُورٍ أُخَرٍ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الشَّيْءِ بِمَلْزُومَاتِهِ. وَالشَّيْءُ قَدْ يَكُونُ لَهُ لَازِمٌ وَلِلَازِمِهِ لَازِمٌ وَهَلُمَّ جَرَّا. فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ أَفْطَنَ بِمَعْرِفَةِ اللَّوَازِمِ مِنْ غَيْرِهِ يَسْتَدِلُّ بِالْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَتَصَوَّرُ اللَّازِمَ وَلَوْ تَصَوَّرَهُ لَمْ يَعْرِفْ الْمَلْزُومَ بَلْ يَقول: يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ وَيَجُوزَ أَنْ لَا يَلْزَمَ؛ وَيُحْتَمَلُ وَيُحْتَمَلُ. وَتَرَدُّدُ الِاحْتِمَالِ هُوَ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ وَإِلَّا فَالْوَاقِعُ هُوَ أحد أَمْرَيْنِ. فَحَيْثُ كَانَ احْتِمَالٌ بِلَا تَرْجِيحٍ كَانَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْوَاقِعِ وَخَفَاءِ دَلِيلِهِ وَغَيْرِهِ قَدْ يعلم ذَلِكَ وَيعلم دَلِيلَهُ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَا لَا يعلمهُ هُوَ لَا يعلمهُ غَيْرُهُ كَانَ مِنْ جَهْلِهِ. فَلَا يَنْفِي عَنْ النَّاسِ إلَّا مَا عَلِمَ انْتِفَاؤُهُ عَنْهُمْ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أَعْلَمُ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ. ثُمَّ إنَّهُمْ يَقولونَ: الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ هُوَ السُّكُوتُ عَنْ الْخَوْضِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ وَالْمَصِيرُ إلَى الْإِيمَانِ بِظَاهِرِهِ وَالوقوف: عَنْ تَفْسِيرِهِ لِأَنَّا قَدْ نُهِينَا أَنْ نَقول فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِنَا وَلَمْ يُنَبِّهْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى ذَلِكَ. فَيُقال: أَمَّا كَوْنُ الرَّجُلِ يَسْكُتُ عَمَّا لَا يعلم فَهَذَا مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ كُلُّ أحد. لَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يعلموا مَعْنَى الْآيَةِ وَتَفْسِيرَهَا وَتَأْوِيلَهَا. وَإِذَا كَانَ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ فَمَضْمُونُهُ عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ وَهُوَ كَلَامُ شَاكٍّ لَا يعلم مَا أُرِيدَ بِالْآيَةِ. ثُمَّ إذَا ذَكَرَ لَهُمْ بَعْضَ التَّأْوِيلَاتِ كَتَأْوِيلِ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ وَقُدْرَتِهِ أَبْطَلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا يُسْقِطُ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ. وَهَذَا نَفْيٌ لِلتَّأْوِيلِ وَإِبْطَالٌ لَهُ. فَإِذَا قالوا مَعَ ذَلِكَ: {وَمَا يعلم تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} أَثْبَتُوا تَأْوِيلًا لَا يعلمهُ إلَّا اللَّهُ وَهُمْ يَنْفُونَ جِنْسَ التَّأْوِيلِ. وَنَقول مَا الْحَامِلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ؟ وَقَدْ أَمْكَنَ بِدُونِهِ أَنْ نُثْبِتَ إتْيَانًا وَمَجِيئًا لَا يُعْقَلُ كَمَا يَلِيقُ بِهِ كَمَا أَثْبَتْنَا ذَاتًا لَهَا حَقِيقَةً لَا تُعْقَلُ وَصِفَاتٍ مِنْ سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تُعْقَلُ. وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ تَأْوِيلُ هَذَا وَأَنْ نُقَدِّرَ مُضْمَرًا مَحْذُوفًا مِنْ قُدْرَةٍ أَوْ عَذَابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمَا مَنَعَكُمْ مِنْ تَأْوِيلِ قوله: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ» كَذَلِكَ؟.
وَهَذَا كَلَامٌ فِي إبْطَالِ التَّأْوِيلِ وَحَمْلٌ لِلَّفْظِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ. فَإِذَا قِيلَ مَعَ هَذَا: إنَّ لَهُ تَأْوِيلًا لَا يعلمهُ إلَّا اللَّهُ وَأُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ هَذَا الْجِنْسُ كَانَ تَنَاقُضًا. كَيْفَ يَنْفِي جِنْسَ التَّأْوِيلِ وَيُثْبِتُ لَهُ تَأْوِيلًا لَا يعلمهُ إلَّا اللَّهُ. فَعُلِمَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي لَا يعلمهُ إلَّا اللَّهُ لَا يُنَاقِضُ حَمْلَهُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بَلْ هُوَ أَمْرٌ آخَرُ يُحَقِّقُ هَذَا وَيُوَافِقُهُ لَا يُنَاقِضُهُ وَيُخَالِفُهُ كَمَا قال مَالِكٌ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يعلم مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مَا يُوَافِقُ القرآن لَمْ يعلمهُ غَيْرُهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَفْسِيرِهَا. وَهُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي يعلمهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ كَمَنْ يعلم أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَجِيءُ اللَّهِ قَطْعًا لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا دَلَّ عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَيعلم مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ الْعَلِيُّ الأعلى يَأْتِي إتْيَانًا تَكُونُ الْمَخْلُوقَاتُ مُحِيطَةً بِهِ وَهُوَ تَحْتُهَا. فَإِنَّ هَذَا مُنَاقِضٌ لِكَوْنِهِ الْعَلِيَّ الأعلى. وَالْجَدُّ الأعلى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ جَرَى فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ الطَّرِيقَةِ. وَهَذِهِ عَادَتُهُ وَعَادَاتُ غَيْرِهِ.
وَذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ الزَّاغُونِي فَقال قال الشَّيْخُ علي بن عُبَيْدِ اللَّهِ الزَّاغُونِي: وَقَدْ اخْتَلَفَ كَلَامُ أمامنَا أَحْمَد فِي هَذَا الْمَجِيءِ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهَلْ يَدْخُلُ التَّأْوِيلُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. أحداهُمَا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ مَجِيءِ ذَاتِهِ. فَعَلَى هَذَا يَقول: لَا يَدْخُلُ التَّأْوِيلُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَجِيئُهُ بِذَاتِهِ إلَّا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ إثْبَاتُ مَجِيءٍ هُوَ زَوَالٌ وَانْتِقال يُوجِبُ فَرَاغَ مَكَانٍ وَشَغْلَ آخَرَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا يُعْرَفُ بِالْجِنْسِ فِي حَقِّ الْمُحْدِثِ الَّذِي يَقْصُرُ عَنْ اسْتِيعَابِ الْمَوَاضِعِ وَالْمَوَاطِنِ لِأَنَّهَا أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَعْظَمُ يَفْتَقِرُ مَجِيئُهُ إلَيْهَا إلَى الِانْتِقال عَمَّا قَرُبَ إلَى مَا بَعُدَ. وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ الْبَارِي تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَعْظَمَ مِنْهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي مَجِيئِهِ إلَى انْتِقال وَزَوَالٍ لِأَنَّ دَاعِيَ ذَلِكَ وَمُوجِبَهُ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّهِ. فَأَثْبَتْنَا الْمَجِيءَ صِفَةً لَهُ وَمَنَعْنَا مَا يُتَوَهَّمُ فِي حَقِّهِ مَا يَلْزَمُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ. وَمِثْلُهُ قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}. وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ الَّذِي رَوَاهُ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ الليل الْآخِرِ فَيَقول: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ». فَنَحْنُ نُثْبِتُ وَصْفَهُ بِالنُّزُولِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا بِالْحَدِيثِ وَلَا نَتَأَوَّلُ مَا ذَكَرُوهُ وَلَا نُلْحِقُهُ بِنُزُولِ الْآدَمِيِّينَ الَّذِي هُوَ زَوَالٌ وَانْتِقال مِنْ عُلُوٍّ إلَى أسفل بَلْ نُسَلِّمُ لِلنَّقْلِ كَمَا وَرَدَ وَنَدْفَعُ التَّشْبِيهَ لِعَدَمِ مُوجِبِهِ. وَنَمْنَعُ مِنْ التَّأْوِيلِ لِارْتِفَاعِ نِسْبَتِهِ.
قال: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ وَالْمَعْمُولُ عَلَيْهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ مِنْ أَصْحَابِنَا.
قُلْت: أَمَّا كَوْنُ إتْيَانِهِ وَمَجِيئِهِ وَنُزُولِهِ لَيْسَ مِثْلَ إتْيَانِ الْمَخْلُوقِ وَمَجِيئِهِ وَنُزُولِهِ فَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ. فَإِنَّ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالَ تتبَعُ الذَّاتَ الْمُتَّصِفَةَ الْفَاعِلَةَ. فَإِذَا كَانَتْ ذَاتُهُ مُبَايِنَةً لِسَائِرِ الذَّوَاتِ لَيْسَتْ مِثْلَهَا لَزِمَ ضَرُورَةُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ مُبَايِنَةً لِسَائِرِ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ مِثْلَهَا. وَنِسْبَةُ صِفَاتِهِ إلَى ذَاتِهِ كَنِسْبَةِ صِفَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ إلَى ذَاتِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ الْعَلِيُّ الأعلى الْعَظِيمُ فَهُوَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَلَا يَكُونُ نُزُولُهُ وَإِتْيَانُهُ بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَخْلُوقَاتُ تُحِيطُ بِهِ أَوْ تَكُونُ أَعْظَمَ مِنْهُ وَأَكْبَرَ هَذَا مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا لَفْظُ (الزَّوَالِ) و(الِانْتِقال) فَهَذَا اللَّفْظُ مُجْمَلٌ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ. فَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرُهُ أَنْكَرُوا عَلَى الْجَهْمِيَّة قولهمْ: إنَّهُ لَا يَتَحَرَّكُ وَذَكَرُوا أَثَرًا أَنَّهُ لَا يَزُولُ وَفَسَّرُوا الزَّوَالَ بِالْحَرَكَةِ. فَبَيَّنَّ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ ذَلِكَ الْأَثَرَ إنْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَهُمْ لِأَنَّهُ فِي تَفْسِيرِ قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ذَكَرُوا عَنْ ثَابِتٍ: دَائِمٌ بَاقٍ لَا يَزُولُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ كَمَا قال ابْنُ إسْحَاقَ. لَا يَزُولُ عَنْ مَكَانَتِهِ.
قلت: وَالْكَلْبِيُّ بِنَفَسِهِ الَّذِي رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ هُوَ يَقول: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} اسْتَقَرَّ وَيَقول: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ} صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ. وَأَمَّا (الِانْتِقال) فَابْنُ حَامِدٍ وَطَائِفَةٌ يَقولونَ: يَنْزِلُ بِحَرَكَةِ وَانْتِقال. وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالتَّمِيمِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد أَنْكَرُوا هَذَا وَقالوا: بَلْ يَنْزِلُ بِلَا حَرَكَةٍ وَانْتِقال. وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ كَابْنِ بَطَّةَ وَغَيْرِهِ يَقِفُونَ فِي هَذَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ وَنَفْيِ اللَّفْظِ بِمُجْمَلِهِ.
وَالْأحسن فِي هَذَا الْبَابِ مُرَاعَاةُ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ فَيُثْبِتُ مَا أَثْبَتَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَثْبَتَهُ وَيَنْفِي مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا نَفَاه. وَهُوَ أَنْ يُثْبِتَ النُّزُولَ وَالْإِتْيَانَ وَالْمَجِيءَ؛ وَيَنْفِيَ الْمِثْلَ وَالسَّمِيَّ وَالْكُفُؤَ وَالنِّدَّ. وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى نَفْيِ الْمِثْلِ. يُقال: يَنْزِلُ نُزُولًا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ نَزَلَ نُزُولًا لَا يُمَاثِلُ نُزُولَ الْمَخْلُوقِينَ نُزُولًا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا أَنَّهُ فِي ذَلِكَ وَفِي سَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ. وَهُوَ مُنَزَّهٌ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُ كَنُزُولِ الْمَخْلُوقِينَ وَحَرَكَتِهِمْ وَانْتِقالهِمْ وَزَوَالِهِمْ مُطْلَقًا لَا نُزُولَ الْآدَمِيِّينَ وَلَا غَيْرِهِمْ. فَالْمَخْلُوقُ إذَا نَزَلَ مِنْ عُلْوٍ إلَى سُفْلٍ زَالَ وَصْفُهُ بِالْعُلُوِّ وَتَبَدَّلَ إلَى وَصْفِهِ بِالسُّفُولِ وَصَارَ غَيْرُهُ أَعْلَى مِنْهُ. وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَكُونُ شَيْءٌ أَعْلَى مِنْهُ قَطُّ بَلْ هُوَ الْعَلِيُّ الأعلى وَلَا يَزَالُ هُوَ الْعَلِيُّ الأعلى مَعَ أَنَّهُ يَقْرُبُ إلَى عِبَادِهِ وَيَدْنُو مِنْهُمْ وَيَنْزِلُ إلَى حَيْثُ شَاءَ وَيَأْتِي كَمَا شَاءَ. وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْعَلِيُّ الأعلى الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي على فِي دُنُوِّهِ قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ. فَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ غَيْرُهُ فَلِعَجْزِ الْمَخْلُوقِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. كَمَا يَعْجِزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ.